السبت، 22 أغسطس 2015

المهنة بين السياسة والطب


دائماً ما يقال بأن السياسة عبارة عن كلام لا فائدة منه وأن دراسة العلوم السياسية لا تجدي نفعاً لأنها مجرّد كلام يخلو من التطبيق، ومن الأفضل إلغاء هذه الكليات (العلوم السياسية) والاتجاه بدلاً من ذلك إلى كليات الشُعب التطبيقية كالرياضيات والطب لأنها أكثر فائدةً للإنسان وقد أثبتت نجاحها.

وهذه نظرة سطحية جداً للأمور، لها زاوية واحدة ضيقة جداً، لأن الذين يتهمون العلوم السياسية بعدم الفائدة هم أصلاً ليسوا مختصين في العلوم السياسية والقاعدة الفكرية تقول (فاقد الشيء لا يعطيه)، فضلاً عن أنهم ينظرون إلى السياسية من خلال ما يحدث على أرض الواقع من فشل سياسي. وهذا صحيح إلى حد ما! لكن في نفس الوقت الفشل في تطبيق الاختصاص لا يعني أن الاختصاص فاشل، وليس مدعاة إلى إلغاء الاختصاص ككلّ، لأن الطبيب عندما يفشل في عملية جراحية معينة فهذا لا يدعو إلى إلغاء اختصاص الطب بسبب فشل بعض الأطباء في التطبيق وإنما الفشل من الطبيب نفسه.
وكذلك الحال بالنسبة للعلوم السياسية فإن الفشل السياسي على أرض الواقع ليس حجة لإلغاء هذا الاختصاص أو اتهامه بأن لا فائدة تُرجى منه، فالخلل في التطبيق وليس في الاختصاص. والسؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة لهؤلاء السياسيين: هل هم خريجو علوم سياسية؟ والجواب أن أغلبهم لم يتخرجوا من جامعات ومعاهد العلوم السياسية، ناهيك عن أن أغلبهم ليس لديهم شهادات أصلاً! وهل تعتقد أن لديهم مستشارين سياسيين بالمعنى الحقيقي للمستشار السياسي الذي درس العلوم السياسية؟ بالطبع الجواب لا! إذ أنهم لا يعرفون ((ألف باء)) السياسة أصلاً! فضلاً عن أن الكثيرين الذين يُدرّسون العلوم السياسية هم أصلاً غير مختصين في العلوم السياسية. والذي يُدرس في غير اختصاصه هو كالذي ليس لديه اختصاص أصلاً لأنه كما قلنا (فاقد الشيء لا يعطيه).

وعليه، فكما أن الطبيب لا يستطيع أن يمارس الطب وإجراء العمليات الجراحية إلا بعد أن يدرس الطب ويقوم بعمليات تجريبية، وإذا ما أتى شخص وحاول أن يمارس الطب دون أن يدرس الطب فإنه سيتسبب بمقتل الناس. فالإنسان عندما يتمرض يذهب إلى الطبيب وكذلك الذي يريد أن يبني بيتاً يذهب إلى مهندس. فمن باب أولى أن الذي يريد أن يمارس السياسة يجب عليه أن يدرس السياسة أو على الأقل أن يكون لديه مستشارون متخصصون، لأن مهنة السياسة هي أخطر مهنة عرفها الإنسان، والذي لا يجيد هذه المهنة من الممكن أن يتسبب في إيذاء الآخرين. فالطبيب إذا أخطأ في العملية الجراحية فإنه يتسبب بمقتل شخص واحد فقط، وإذا ما نجح في العملية الجراحية فإنه يكون قد أنقذ حياة إنسان واحد فقط. في حين أن الذي يمارس السياسة إذا أخطأ في العملية السياسية فإنه قد يتسبب بمقتل وذهاب شعب بأكمله، وكذلك في حال نجاحه في العملية السياسية فإنه سيكون قد أنقذ شعباً بأكمله وذهب به إلى برّ الأمان.

إذن فالعلوم السياسية، والسياسة بصورة عامة، هي أهم وأخطر من أي اختصاص آخر، بما في ذلك اختصاص الطب. لذلك لابد من الاهتمام بالعلوم السياسية كونها من أهم العلوم التي تنهض بها الأمم والمجتمعات، فلو ألقينا نظرة إلى الدول المتقدمة وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي يوجد فيها أكثر من (50) عالم في السياسة وأكثر من (2500) مركز دراسات مختص في العلوم السياسة من مجموع (4000) مركز في جميع أنحاء العالم، سنجد أن اختصاص العلوم السياسية هو من أهم الاختصاصات التي تهتم بها هذه الدولة التي وصلت إلى مرتبة الدولة الأولى في العالم في كافة الاختصاصات، لأن كل تقدم في أي مجال يحتاج إلى قرار سياسي ناجح وناضج ورشيد. ولأن هذا الاختصاص هو الذي يقود الاختصاصات الأخرى من خلال أن صانع القرار الذي يجب أن يكون لديه إلمام كافي بالعلوم السياسية هو الذي يصنع النهضة إذا استطاع التعامل بحكمة سياسية في قيادة الدولة والمجتمع. فهلا اتعظنا واهتممنا بهذا الاختصاص الذي يكاد يكون قد انتهى من الناحية العملية في بلداننا العربية.

إذا كانت الرياضيات هي لغة الكون فإن السياسة هي لغة الانسان، وإذا كان الطب يعالج أفراداً فقط، فإن السياسة تعالج أمماً وشعوب.

المؤلف: مهند الراوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق