الجمعة، 28 أغسطس 2015

مفهوم السفر عند الصوفية

إنّ المتطلع لمادة "سَفَرَ" في اللغة العربية وما تكتنزه من معان عديدة تُوحي عن الكشف والإظهار، تتبين له العلاقة القويّة التي تربط الصوفي بالسفر، ولعل الوقوف على كلام أصحاب المعاجم في هذه المسألة يوضّح الرؤية شيئا فشيئا.

معنَى "سَفَرَ" في لسان العرب: "سفر البيتَ وغيره يسْفرهُ سَفرا، كنسه والمسْفرةُ المِكنسةُ وأصله الكشفُ والسُّفارةُ بالضم الكُنّاسة وقد سفره كشطهُ، وسفرت الريح الغيمُ عن وجه السماءِ سفرا فانْسَفر فرّقته فتفرق وكشطته عن وجه السماء وأنشد : سفر الشَّمال الزّبرج المُزبْرَجَا، والرياحُ يُسافر بعضها بعضا لأن الصبا تسفِرُ ما أسدته الدَّبُور والجنوبُ تُلحِمُه والسفير ما سقط من ورق الشجر...".1
وعند ابن فارس: "رجلُ سفْرُ وقومُ سفرُ، وسفرتَ بين القوم سفارةً إذا أصلحتَ، والوجه المُسفر هو المشرقُ سرورا..".2
وفي الحديث أن عُمرَ دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "يا رسول الله لو أمرت بهذا البيت فسُفرَ".3
ومعنى "سفر" في مختار الصحاح: "السَّفَرُ قطع المسافة والجمع أسفار والسّفرةُ الكتبةُ، قال تعالى: "بأيدي سفرةٍ".4
قال الأخفش: وأحدهم سَافر مثل كافر والسِّفرُ بالكسر الكتاب والجمع أسفار، قال تعالى: " كمثل الحمار يحملُ أسفارا".5
والسُّفرةُ بالضم طعام يتخذ للمسافر ومنه سُميت السفرة والمسفرة بالكسر المكنسة والسفير الرسول المصلح بين القوم والجمع سُفراء.
وفي صحاح اللغة السَفر قطع المسافة والجمع الأسفار والسفرُ أيضا بياض النهار.
بين أهل اللغة أن السَفر يعني كشف الغطاء عن الرأس أو الخمار عن الوجه أو التراب عن الأرض أو الغيوم عن السماء، ومنه اشتقت كلمة المسافر بمعنى المغادر للمكان الذي كان نازلا فيه ويقال أيضا ما سُمّي المسافرُ مسافرا إلاّ لكونه يسفرُ -يفصِحُ- عن أخلاقه فيظهر ما كان خفيا منها لينكشف على حقيقته.
كذلك من المعاني في هذا الباب معنى الإشراق والإضاءة، فطريق المسافر يحتاج إلى إضاءة ليبلغ مراده وكلّ من هذه المعاني السابق ذكرها يسعى الصوفي وبشدة لترفقه في طريقه لربه.
لعلك تتساءل هنا عن حقيقة سفر الصوفي وعن الوسائل التي يتوسلها في سفره؟
دعنا نتفق أولا أن السفر يمثل حقيقة كل الأشياء، إنه التركيبة الحيوية والنسق الحركي المتواصل لهذا العالم من الذرة إلى المجرة، فضلا عن هذا الإنسان الذي اجتمعت فيه من خلال مساره كلّ أشكال السفر وأنواعه، فخروجه من ضيق الرحم لسعة الوجود سفر، ومروره من طور لطور سفر، دقات قلبه سفر وأفكاره سفر وخياله سفر وكلماته مسافرة من أعماقه لتتلقاها الأسماع وانتقاله من الدنيا إلى الآخرة سفر ومن الحساب سيسافر إما للجنة وإما للجحيم...
"فالسفر وسيلة إلى الخلاص من مهروب عنه أو الوصول لمرغوب فيه ، والسفر سفران ، سفر بظاهر البدن المستقر والوطن ، وسفر بسير القلب عن أسفل السافلين إلى ملكوت السماوات ، وأشرف السفر سفر الباطن".6
وبناء على ما ذكرناه نشير على وجه الخصوص إلى تلك الأسفار المشروعة للإنسان ضمن أنواع ثلاثة من السفر، سفر من عند الله وسفر إليه وسفر فيه، أهمها التي فيها السفر ربّاني أو يكون فيها المرء مسافرا به كما هو حال الأنبياء والأولياء المصطفين الذين عن الخوف والحزن فرّوا.
قال الإمام الأكبر محي الدين ابن عربي رحمه الله: "أمّا بعد فإن الأسفار ثلاثة لا رابعة لها أثبتها الحق عز وجل وهي سفر من عنده وسفر إليه وسفر فيه، وهذا السفر فيه هو سفر التيه والحيرة، فمن سافر من عنده فربحُه ما وجد وذلك هو ربحه، ومن سافر فيه لم يربح سوى نفسه، والسفران الأوّلان لهما غاية يصلون إليها ويحطون عن رحالهم، وسفر التيه لا غاية له، والطريق التي يمشي فيها المسافرون طريقان، طريق في البر وطريق في البحر، قال الله عز وجل: "هو الذي يُسيّركم في البر والبحر".7
قلت أن السفر منه هو القدوم لمهمة عظيمة ومسؤولية جليلة وهي استخلافه في أرضه وذلك بعمارتها وعبادته والامتثال لأوامره والانتهاء لنواهيه فضلا عن معاينة بديع صنعه والتفكر في عالم ملكه، والسفر إليه أوله شوق وأوسطه سير ومجاهدة فوصول ومكاشفة، أمّا السفر فيه هو الفناء في عشقه وقد قيل: "قلوب أهل الحق طائرة إليه بأجنحة المعرفة ومستبشرة إليه بمولاة المحبّة".
"والمسافرون فيه طائفتان، طائفة سافرت فيه بأفكارها وعقولها فضلّت عن الطريق ولابدّ، فإنهم ما لهم من دليل في زعمهم يدل سوى فكرهم وهم الفلاسفة ومن نحا نحوهم، وطائفة سُوفِر بها فيه وهم الرسل والأنبياء والمصطفون من الأولياء كالمحققين من رجال الصوفية مثل سهل بن عبد الله وأبي زيد وفرقد السبخي والجنيد بن محمد والحسن البصري ومن شهر منهم ممن يعرفه الناس إلى زماننا...".8
إن المسافر عند القوم هو من أقام مرابطا على ثغر المجاهدة فالتزم بحدود الشريعة امتثالا وانتهاء فلسفته في هذا الطريق التخلية والتحلية -التخلي عن كل مذموم والتحلي بكل محمود، لذّته في مشقة كبح سلطان نفسه وسعادته أينما تفرّغ من تخطيه لمسافة حُفّت بما يحول دونه ومراده وكما سُئل عمران عن الجزع الذي يلحق المسافر في سفره فقال: " إذا خفت عليه فألقه في اليم، يعني لا تبال أيش ما لحقك بعد ما تكون متوجها إلى الله تعالى..."9، ذخره المجاهدة والاستسلام والتوكل، قال ابن عربي: "اتخذت الاستسلام جوادا، والمجاهدة مهادا، والتوكل زادًا".10

يتبين إذًا أن عماد هذا السفر المجاهدة والتوكل والاستسلام، وكما تعاهد أهل السفر للأقطار أن لا بد من زاد يهون على المسافر مشقة السفر ووطأته فإن أهل الحقيقة تعاهدت قلوبهم ألا انفكاك من التزود بهذه الثلاثة ناهيك أن يتخلق ويتعلق ويتحقق بها أيضا حتى تفيء روحه لحضرة مولاه، وكما جاء على لسان الشيخ الأكبر في هذا الضرب من المعراج قوله "هو معراج أرواح لا أشباح، وإسراء أسرار لا أسوار، وسلوك معرفة ذوق وتحقيق لا سلوك مسافة وطريق إلى سماوات معنى لا مغنى".
______________________________
1 لسان العرب، ابن منظور، ج7،ص 196، ط درا صادر، د.ت.
2 معجم اللغة، ابن فارس أحمد، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة.
3 تاريخ بغداد، 6/34، موقع الدرر السنية.
4 سورة عبس، 15
5 سورة الجمعة: 5
6 الغزالي، إحياء علوم الدين، ج2/ص 331 ، المكتبة المصرية.
7 ابن عربي، الإسفار عن نتائج الأسفار، ص 2.
8 م.ن.ص.4.
9 الطوسي، اللمع، مكتبة الثقافة العربية.
10 ابن عربي، المعراج، ص 68، تحقيق سعاد الحكيم، ندرة للطباعة والنشر.

المؤلف: فتحي طالب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق