السبت، 22 أغسطس 2015

التفكير المستقبلي

كان التفكير في المستقبل أحد أهم الهواجس التي شغلت فكر الإنسان منذ بداية ظهوره على سطح الأرض في العصور المبكرة جدا وخلال كل مراحل التاريخ. فقد كان تفكير الإنسان يرصد دائما الأحداث التي تدور حوله، ويعمل على استشراف التغيرات المستقبلية الناجمة في معظم الأحيان عن أنشطته هو نفسه، في مختلف مجالات الحياة، ويستعين بالمستجدات التي تلازم ظهور هذه التغيرات في إحداث تغيرات ومستجدات أخرى وهكذا.
إذ إن محاولات معرفة المستقبل، قديمة قدم الإنسان ذاته، لكن الإشكاليات المطروحة في وقتنا الحاضر هي غموض المصطلحات والمفاهيم -مصدر كل خلط وتشويش في الطرح والشرح والتفسير. وحتى الآن ما زال الشك والتردد يخامر العديد من العلماء والباحثين، فيما يتعلق بفعالية الدراسات المستقبلية، وعملية استشراف المستقبل. وهل هو علم قائم بذاته، بالرغم من أنه مازال في مرحلة الطفولة؟

ما دام أن المستقبل ليس قدرا محتوما، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون صورة واحدة فريدة من نوعها. فأمام كل فرد، أو مجموعة، أو مدينة، أو مجتمع أو مجموعة من الدول أو حتى المجتمع الدولي برمته، في أي لحظة معطاة من تاريخهم ثمة احتمالات متعددة للمستقبل يتعين عليهم الكشف عنها ومحاولة رسم المعالم الأساسية لكل منها.

ضمن هذا الحيز كثير من الناس يبحثون عن عوامل معرفة الحاضر لرؤية وفهم وبناء المستقبل، على خلاف ما جاء به موضوع التنبؤ، كطرح تقليدي كلاسيكي يوصف أحيانا بأنه ينفصل عن الواقع المعاش. بالرغم من هذا يبقى التنظير للمستقبل هو العمل الذي يرتكز بالأساس على استيعاب ومعرفة الحاضر، ومن ثم، التوقع الآلي الذي يعني المعرفة العلمية للمستقبل، الذي يقوم علي المنطق الواحد، من معطيات ومعلومات إحصائية، توصف أحيانا بأنها محدودة - لماذا؟ لأن العملية ترتكز أساسا على الخيال، والتخيل، وآلية التصور.

وفي الوقت الحاضر ما أحوجنا نحن العرب في مؤسساتنا العلمية، وفى مراكز صنع القرار، أن نستخدم هذا المنهج فى دراساتنا وأبحاثنا، حتى نستطيع أن نحدد مساراتنا واتجاهاتنا، وحتى نتقي -قدر المستطاع- سلبيات ما نتعرض إليه فى حاضرنا.

إن العلاج الحقيقي هو أن نمأسِس هذا العلم، ونؤسس مراكز للبحوث والدراسات الاستراتيجية والمستقبلية. وأن نفرض توظيف هذا العلم وتطبيقاته ممزوجاً بإرادة حقيقية صادقة، لكونه أفضل علاج مضاد للمشاريع اللحظية والآنية، وأنجع استرشاد لمشاريع مستقبلية لكافة أوجه الحياة، وكي تدوم إلى عقود زمنية قادمة تخدم أجيالا نحو مستقبل واعد.

إذ باتت الدراسات المستقبلية من الأولويات، بمعنى أنها صارت ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها؛ إذ لم تعد مجالاً من مجالات السجالات الفكرية أو الرفاهية الثقافية أو التسلية الذهنية فى الدول المتقدمة وحدها. بل إنها باتت ضرورية للدول كافة، على اختلاف حظوظها من التقدم أو التخلف ومن الغنى أو الفقر. وإن كانت تتطلب بالضرورة قدراً من الخيال والقدرة الذاتية على التصور المسبق لما هو غير موجود أو غير معروف الآن، إلا أن أنشطتها -على حد قول "إبراهيم عيسوي"- "تختلف نوعياً عن الأنشطة التى تقع في حقل الخيال العلمي أو فى ميدان التنجيم والرجم بالغيب".

ويفترض نشوء الطلب على هذا النوع من الدراسات وجود مجتمع أو على الأقل وسط اجتماعي واسع يقدر أهمية العلم، ويؤمن بالعقلانية، ويثمن ضرورة أن تقوم السياسة العامة على أساس من المعرفة الصحيحة بالواقع واحتمالات التطور في المستقبل، لذا فإنه يتيح للقائمين على هذه الدراسات كافة الظروف والتسهيلات التي تتيح لهم القيام بعملهم على خير وجه.
وسيأتي المستقبل حتما، فإما أن نصنعه بأنفسنا ونذهب إليه، وإما أن يصنعه لنا الآخرون ويأتينا جاهزا خارجاً عن إرادتنا.

المؤلف: مهند حميد الراوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق