الجمعة، 21 أغسطس 2015

الحسد، حقيقته (ومن شر حاسد إذا حسد)

مما هو معروف من تعريف العلماء للحسد أنه تمنِّ زوال النعمة عن الغير. فمن التعريف يُفهم أن الحسد هو تمنٍّ فقط، فما هو تفسير {[ومن شر حاسد إذا حسد]}؟؟
إن الحسد يُحدث تفاعلات في نفسية الإنسان تدفعه لمحاوله أذى المحسود وبهذه الحالة يكون شر الحاسد هو الفعل (أو شر يدفعه للفعل) الذي يقوم به في محاولة لأذى الشخص المحسود كالتآمر عليه، وليس الشر عن طريق العين التي تدمر وتحطم بمجرد استخدامها.
وسأسرد هنا قصتين من القرآن يحفظهما الجميع:
1- قصة نبي الله يوسف عليه السلام مع إخوته التي ابتدأت بالحسد وانتهت بالأفعال الشنيعة: حسد إخوة يوسف جعلهم يرمون به في الجب بعد تراجعهم عن قتله. لماذا لم يكن هناك تأثير لعين أو لنظرة خارقه في هذا الحسد، لماذا لم نرَ سوى تأثير الأفعال؟
كان الأسهل على إخوة يوسف أن يحسدوا أخاهم بأعينهم، أليست "العين حق"، و"لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين"، و"العين حق لتورد الرجل القبر والجمل القدر"، فما الذي منع حدوث شيء ليوسف من العين؟ أم أن المقصود بشر الحاسد هو شر أفعاله؟
قال تعالى: {[إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ * قَالَ يَابُنَىَّ لا تَقْصُصْ رء يَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]}. (يوسف –4 ، 5)
2- قصة ابنيْ آدم عليه السلام: إن كان قابيل قد حسد هابيل، فلماذا لم يُذكر شيء عن تأثير الحسد؟ لم يذكر القرآن سوى ذلك الفعل الشنيع -القتل- الذي جاء بتأثير الحسد؟
قال تعالى: {[إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الأخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]} (المائدة: 27).

هذه الأمثلة القرآنية تُفهمنا أن شر الحاسد المذكور في الآية هو شر أفعاله، وليس كما أفهمونا أن المقصود من الآية شر العين الحاسدة.
في قوله تعالى {[ومن شر حاسد إذا حسد]}، فقد نسب الله الشر إلى الحاسد لا إلى الحسد نفسه. وكما قلنا فإن المقصود بالشر هنا شر الأفعال لذلك فإن الحسد يؤثر على نفسية الحاسد فيؤذي المحسود.
وأورد هنا نص كلام الإمام الطاهر ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير في تفسير آية ومن شر حاسد إذا حسد:
((والحسد: إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير مع تمني زوالها عنه لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها.
فقد يغلب الحسد صبر الحاسد وأناته فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكها رأسا. وقد كان الحسد أول أسباب الجنايات في الدنيا، إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قبل قربانه ولم يقبل قربان الآخر، كما قصه الله تعالى في سورة العقود.
وتقييد الاستعاذة من شره بوقت إذا حسد لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسود حين يجيش الحسد في نفسه فتتحرك له الحيل والنوايا لإلحاق الضر به.
ولما كان الحسد يستلزم كون المحسود في حالة حسنة، كثر في كلام العرب الكناية عن السيد بالمحسود، وبعكسه الكناية عن سيئ الحال بالحاسد، وعليه قول أبي الأسود:
حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه      فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها      حسدا وبغضا إنه لمشوم
وقول بشار بن برد:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم     قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم        ومات أكثرنا غيظا بما يجد
إلى هنا ينتهي حديثنا عن الحسد دينيا وسنذكر ما يمكن أن نفسر به شيوع فكرة الحسد في ضوء علم الاجتماع.

إن مشاكل الحياة كمشاكل العمل والدراسة وغيرها تجعل الإنسان على استعداد تامّ للإيمان بشيء خارق يفسر له جميع مشاكله.
فالاعتقاد بأن هناك أشخاص يحسدون بمجرد نظرهم إلى الشيء ...الخ من الخرافات التي يصدقها الإنسان ما هي إلا أوهام.
إن حدوث بعض المشاكل للأشخاص الذين يخافون من الحسد ينطبق عليهم قانون الجذب الذي يقول: ما تفكر به يعود إليك من نفس النوع.
ويؤكد هذا المبدأ ما جاء عن الرسول الأكرم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام بقوله: تفاءلوا بالخير تجدوه.
إن الاعتقاد الشائع لدى العوام عن الحسد ليس فيه قاعدة محددة، ولنفترض أنّ شخصا يخاف أن يُحسد إعجابا بإنجازاته، فعندما تحدث له مشكلة في العمل يقول أن فلان من الناس حسده فإن لم تحدث له مشكلة في العمل فإنه ينتظر حدوث أي مشكلة له في أي مجال في الحياة حتى يكون له حجة أينما حصل التأثير. كما أن موضوع الحسد ليس فيه قاعدة فيما يخص الوقت فربما يحدث آنيا أو بعد أيام أو شهور أو حتى سنين، لذلك خرافة الحسد دائما ناجحة لأننا يمكن أن نشكلها كيفما نشاء وبكل الحالات هي صحيحة بحسب الاعتقاد السائد عن الحسد.
ومن أسباب تصديق الناس للحسد هو تداول بعض القصص التي تؤكده والتي بسببها أصبح الاعتقاد الشائع والسائد بخصوص الحسد هو الذي نعرفه اليوم.
ونحن لا نجزم بأن كل هذه القصص كاذبة ومختلقه قد يكون بعضها صحيحا فيكون الموضوع ليس إلا صدفه تحدث في بعض المرات وبعضها الأخر مختلقا، والمشكلة أن جميع الناس يظنون أنهم محسودون في كل الأوقات، وفي بعض الأوقات تصدق توقعاتهم لأن الإنسان معرض للمشاكل في حياته وهذا أمر طبيعي، غير أنهم ينسون كل الأشياء التي لم يحسدوا عليها ويتذكرون ذلك القليل الذي كان حدوثه صدفه بحتة، لأن الاعتقاد بأنك محسود على الدوام سوف يصدق في بعض الأوقات عندما تحدث لك مشاكل (وهذا ليس أمرا غريبا بل هي سنة الحياة)، فإنك ستعتقد جازما بأن ما حصل كان بفعل الحسد، وليس أدل على صحة هذا الرأي من أن أغلب الأوقات لا يتحقق الاعتقاد بالحسد.
ذكر الأستاذ أحمد أمين في كتابة قصة الفلسفة الحديثة في الجزء الأول صفحة 64 قصة جميلة أن رجلا دخل إلى معبد فعرض عليه السدنة عشرات اللوحات التي علقها فيه من أنجاهم الله من الغرق استجابة لدعائهم ونذورهم ثم سُئل الرجل ألا يعترف بعد هذه الأدلة كلها بنفع النذور؟ فأجاب ولكن أين لوحات أولئك الذين غرقوا في البحر على الرغم من نذورهم؟
الآن وبعد كل ما ذُكر أود أن أسوق قصة شخصيةً حصلت معي وهي التي حملتني على التفكير في موضوع الحسد وتبني هذه الفكرة: حدث معي في إحدى المرات أن أحد أصدقائي قال لي أن عينه مدمِّرة وتحسد وجاء بدليل لإثبات حسده والدليل هو أنه قبل يومين رأى سيارة فأعجبته وما هي إلا دقائق وإذا بهذه السيارة تصطدم بأخرى فكانت هذه القصة هي دليله على أنه يحسد وفي نفس اللحظة تبادر إلى ذهني سؤال (خصوصا وأن هذا الشخص مولع بالسيارات وربما تعجبه يوميا خمسة سيارات كمعدل أي أنه في حياته أعجب بآلاف السيارات) لماذا يتم التركيز على سيارة واحدة اصطدمت من بين آلاف السيارات التي أعجبته من قبل، لماذا لا نستند إلى أنه شخص لا يحسد لأن سيارة واحدة فقط اصطدمت من بين آلاف السيارات؟ الجواب هو الفكرة السائدة عن الحسد.
فلا يوجد شيء اسمه عين وحسد يؤثر على المحسود ما هي إلا أوهام قمنا باختلاقها ربما لمواساة أنفسنا لفشلنا أو ربما بسبب حب الإنسان للخوارق والخرافات.

المؤلف: علي الهاشمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق