الاثنين، 17 أغسطس 2015

زيارة إلى قلبك

عجيب أمره.. كيف يمكن لذلك العضو الصغير في الحجم أن تكون له كل هذه السيطرة على باقي الأعضاء.. أن يكون له كل هذا التأثير على النفس.. الروح والجسد كالخاتم في إصبعه.. إذا مرض مرضت الروح والجسد، وإذا إنتعش انتعشت الروح ورقصت خلايا الجسد على لحن دقاته العذبة واستيقظت النفس مستبشرة ببداية يوم ربيعي جميل..

نعم إنه القلب.. إنه تلك العضلة النشيطة التي تضخ الدم إلى سائر خلايا الجسم.. تلك العضلة التي تعمل بلا كلل ولا ملل..
ولكنها متقلبة المزاج.. كطفلة مشاكسة، تحتاج منك الفطنة والحذر في التعامل معها.. كفتاة مدللة، تريد منك الإهتمام التام.. كسيدة تنذرك بأن إهمالها ليس بالأمر الهين، وقد تغادرك في النهاية إن أنت أخذت إنذارها على محمل الهزل.. كعجوز مقعدة، تحتاج منك عناية خاصة..
نعم.. إنه القلب.. ذلك العضو الصغير ذو الشأن الكبير...
ولكن.. متى كانت آخر مرة زرت فيها قلبك؟ متى كانت آخر مرة تمشيت في أرجائه.. تجولت في أركانه.. دخلت غرفه.. تفقدت أثاثه؟
لا تعلم؟ إذاً دعنا ندخل الآن.. لا تخف..
ما هذا؟؟
حديقة موحشة إحتلتها الأعشاب الضارة والأشواك.. غرف مظلمة.. حيطان إسود لونها.. أركانٌ إتخذتها العناكب والحشرات بيوتاً ومسكناً.. أثاث دفن تحت غبار كثيف.. ستائر ممزقة..
ما هذا يا صديقي؟ آه عذراً! لا بد أنك لا تعلم، فقد مرت فترة طويلة منذ أن زرت فيها قلبك.. لا لوم عليك!

مهلاً!
ما هذا الضوء الخافت من بعيد؟ دعنا نتحقق من الأمر..
انظر! انها شمعة.. شمعة مضيئة.. شعلة تصارع الرياح.. قبس من نور لازال يقاوم.. ولكنها شمعة قصيرة هزيلة تحتضر.. حائرة هي.. لا تدري لمن تسلم تلك الشعلة، فقد فارقت زميلاتها الحياة .. فبقيت شمعة وحيدة.. شمعة قصيرة هزيلة تحتضر.. لكنها لم تيأس، مازال الأمل رفيقها وأنيسها في هذه الظلمة...

لم تزدها سخرية تلك الأركان المظلمة إلا إصراراً وتحدياً.. شمعة لا ترضى بأن تنير ركنا وحيداً فقط.. شمعة تستفزها باقي الأركان المظلمة.. شمعة مازالت تنتظر من يأتي ليكمل المهمة من بعدها..

أ لم تعلم بعد من هي تلك الشمعة؟
إنها روحك.. روحك التي أقعدها المرض.. روحك التي تصارع الموت كل يوم والموت لازال يتربص بها من كل الجهات ...
منفذ آخر فقط، وتزهق تلك الروح المسكينة التي تسارعت أنفساها وخنقتها العبرات.. تلك الروح التي لازالت تنتظر من يأتي لينعش هذا القلب الذي يحتضر.. هذا القلب الذي قاطعها ومنع عنها الاكسجين والغذاء.. تلك الروح التي لازالت تنتظر.. تنتظر من يعيد إليها الحياة فتبعث من جديد..
إذاً يا صديقي.. أما آن الأوان أن تقوم بزيارة؟
ربما تزيل بعض الغبار.. ترمم بعض الأثاث.. تغير الديكور.. تقتلع بعض الأعشاب الضارة.. تغرس شجرة برتقال هنا وشجرة تفاح هناك.. قرنفل هنا وياسمين هناك..

أما آن الأوان أن تطرح هذا السؤال: كيف حالك يا قلبي؟ أ بخير أنت؟ ما أخبارك؟
أما آن الأوان أن تراجع نفسك؟ تتجاذب أطراف الحديث مع أناك التي تقبع داخل قلبك؟ مع تلك الروح التي أقعدها المرض ولازمت الفراش؟

بلى، قد آن الأوان..
قف يا صديقي.. فلتضع يدك على صدرك!
أمازلت تشعر بدقات قلبك؟ قلبك مريض نعم، ولكنه مازال يعمل..
أتشعر بذلك النبض الشبيه بسمفونية جميلة تطرب لها الآذان؟
أتشعر بذلك الإيقاع المتناهي في الدقة؟
أتشعر بتلك الدماء المتدفقة في عروقك؟
أتشعر بتلك الخلايا التي تتنفس الصعداء كلما وصلها الأكسجين والغذاء؟
ألم تسري في جسدك قشعريرة بعد؟
ألم تشعر بعظمة الخالق المبدع الذي وهبك قلباً ينبض ويداً يمكنك رفعها لتضعها على ذلك الصدر وتشعر بذلك النبض الذي يطمئنك ويخبرك بأنك لم تمت بعد.. بأنك مازلت على قيد الحياة.. بأنك حي ترزق.. بأنه لم يفت الأوان بعد لتمتهن مهنة الطب وترتدي ميدعة بيضاء وتضع سماعة وتصغي إلى قلبك...
إجعله يخبرك كيف بدأ هذا المرض.. ما العامل القادح الذي بدأت معه الأعراض بالظهور؟
إجعله يخبرك بكل شيء.. ويعترف بمدى اهماله وأنه كان سبباً في الذي حصل له، ولو بنسبة ضئيلة..
ولكن لا تنس أن تطمئنه وتخبره بأن إعترافه بحالته وزيارته للطبيب دليل على مدى وعيه ورغبته في التحسن.. أخبره بأن الشفاء رهين بمدى تعاونه ويحتاج إلى ثقة متبادلة وعلاقة أخذ وعطاء بين المريض والطبيب ومتابعة مستمرة من قبل الطبيب..
أخبره بأن الدواء ليس باهض الثمن ولكنه مرتبط بمدى رغبته في الشفاء ومدى إلتزامه باتباع نصائح الطبيب وعدم إهماله لتعليماته..
تلك الكآبة والحيرة التي أصابتك يا قلب ستندثر.. ذلك الألم الذي تشعر به سيزول بإذن الله.. فقط، عليك باتباع وصفة الطبيب.. الطبيب الذي هو أنت في آخر الأمر...
ولكنك الآن وقد علمت بأنك في حاجة إلى تغيير شيء ما في داخلك.. في حاجة إلى سكينة تطمئن بها قلبك وتداوي بها جروحك، قد تتساءل يا ترى، ما الدواء الذي سأصفه إلى نفسي؟

هنا يجيبك الحق جل جلاله؛ " ألا بذكر الله تطمئن القلوب"
قلبك أكلته الهموم؟ قلبك أغرقته مشاغل الدنيا؟ "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"
قلبك جريح؟ قلبك ينزف توتراً؟ "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"
قلبك يحتضر؟ قلبك يكاد يتوقف عن النبض؟ "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"
أذكر الله يا صديقي...
لا تجعل يومك يمر من دون ذكره...
لا تجعل تلك السويعات تتفلت من بين أصابعك من دون ذكر السميع العالم..
هو الذي يعلم ما في قلبك.. هو الذي يعلم معاناتك.. أذكره.. إشتك له.. سيستمع إلى شكواك.. وستنفس أنت عن ما تلاقيه..

فقط أذكره..
لتطمئن... و ليطمئن قلبك..
هذا الدواء يا صديقي يمكنك أخذه متى شئت.. صباحاً أو مساءً.. حبة أو حبتين.. قبل الطعام أو بعده.. في بيتك أو في عملك.. جالساً كنت أو مهرولا.. لست مقيداً بوقت ولا بمقدار معين .. متى أخذته وواضبت عليه، سيؤدي مفعوله بإذن الله..
والقرآن..
القرآن يا صديقي..
القرآن الذي فيه شفاءٌ لأمراض الصدور وجراح القلوب ...
القرآن الذي يمطر قلبك غيثاً نافعاً فيؤتي أكله من بعد ما كان قاحلاً موحشاً، احتلته الأشواك والأعشاب الضارة..
القرآن الذي به الجراح تندمل والندوب تختفي...
القرآن الذي به تنتعش الروح وتنقشع الظلمة...
القرآن الذي به تحيا القلوب...
فلتقرأ منه ما تيسر يومياً وإحفظ في صدرك نصيب منه..

تخيل معي فرحتك وأنت تستمع إلى تلاوة آية ما وتكملها أنت حفظاً.. نعم يا صديقي، ستزهو وستطرب، وإن كنت لا تفقه منه شيئاً ولكن ستغمرك فرحة لا تدري من أين وكيف أتت، وإن كان السبب واضحاً وضوح الشمس..

فلتشمر عن ساعدك ولتعزم ولتتوكل على الله ولتعاهد نفسك بأن تجعل للقرآن مكاناً في جدول أعمالك اليومي المزدحم.. مكانا مقدساً لا يمكن المساس به.. مكاناً سيظل ما ظللت حياً .. مكانا سيبقى وسيدوم مادامت السعادة ضالتك والفرح غايتك..
الآن وقد واضبت على هذه الوصفة، فباقي ما سأخبرك به لن يتطلب منك جهداً كثيراً.. فقط المثابرة حتى تتعود على هذا الأمر.. حتى يصير وكأنه جزء منك..

لا تنس وأنت تستيقظ صباحاً بأن تخبر نفسك بأن هذا اليوم سيكون سعيداً بالرغم من الهموم والمكارب.. بأن تعد قلبك بأنك لن تنساه اليوم.. لن تحرمه من الفرح.. السعادة قرار.. ستأتيك متى فتحت لها الأبواب، متى استقبلتها بالأحضان..
لا تنسي وأنت تنظرين إلى نفسك في المرآة وأنت تضعين زينتك ومعطفك متأهبة للخروج بأن تحمدي الله على هذا اليوم الجديد..
لا تنس وأنت تسوي ربطة عنقك بأن تشكر الله لأنك اليوم في صحة جيدة.. وأنظر إلى صورتك التي في المرآة.. تأملها جيداً.. أشر إليها بإصبعك.. وقل لها: " أنا اتحداك اليوم بأن تقدم أفضل ما عندك.. بأن تدرس باجتهاد.. بأن تتقن عملك.. وليكن التحدي شعارنا.."
لا تنس وأنت تمشي في الطريق، قاصداً وجهتك، بأن ترسم على محياك إبتسامة عذبة، تكون كالشحنة الإيجابية من أجل كل شخص يمر بجانبك.. من أجل يومك هذا.. من أجلك أنت..
لا تنس وأنت تمر بجانب طفل صغير بصحبة أمه بأن تبتسم له، وتلاعبه وتثني عليه..
لا تنس وأنت تمر بجانب شيخ طاعن في السن، يحاول بجهد قطع الطريق والسيارات تأبى بأن تتوقف له والكل مسرع متشنج لا يكاد يلمح بعضهم بعضاً.. بأن تلمحه أنت.. بأن تلاحظه أنت.. بأن تساعده أنت.. صدقني، شعور بالرضا لا يشترى بمال سيتسلل إلى قلبك ويضيء شمعة ما في ركن ما..
لا تنس وأنت تمر بحارس مرور أو عامل بناء أو عامل نظافة، بأن تبتسم له وتسلم عليه وتدعو له بالتوفيق والسداد..
لا تنس وأنت ترى أذى في الطريق، والكل يمر بجانبه وكأن الأمر لا يهمه ولا يعنيه.. بأن يهمك أنت.. بأن تكون أنت المعني بالأمر.. أزحه عن الطريق.. ثم أكمل مسيرك مبتسماً.. فعلت خيراً اليوم ..
لا تنس وأنت تمر بشاطئ البحر.. بحديقة.. بأشجار.. بأزهار.. بأن تلاحظ.. وتتأمل.. وتمتع عيناك.. وتملأ رئتاك هواءً نقياً.. ثم تمر..
لا تنس كثيراً من الأشياء يا صديقي...

إجعل لهذه التفاصيل الصغيرة حيزاً في حياتك اليومية.. ففيها ما لا يمكن لأي حبوب أو حقن منافسته في الشفاء.. فيها ما لا يمكن لأي مال شراؤه.. فيها سعادتك وطربك.. فيها دواء لقلبك وشفاء لروحك و سكينة لنفسك..
.. ثم تفقد قلبك يا صديقي.. يا ترى كيف حال تلك الشمعة الوحيدة؟
احملها وتجول بها في سائر أركان قلبك.. ستجد شموعاً أخرى ملقاة على الأرض.. لم تلمحها لأنك لبثت في مكانك ولم تبحث.. لأنك رضيت بالظلمة عنواناً لك..
أسرع يا صديقي ومرر النور إلى باقي الشموع ما دامت تلك الشمعة لم تنطفئ بعد ..
أسرع وإعتزل الظلمة.. إجعل النور عنواناً لك والضياء شعاراً لك.. والحياة غايتك والسعادة ضالتك..
والآن.. قف يا صديقي من جديد كما وقفت أول مرة.. ضع يدك على صدرك..
بماذا تشعر؟؟..

المؤلف: مريم الخلفاوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق